فصل: تفسير الآيات رقم (108- 116)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 116‏]‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏108‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ‏(‏111‏)‏ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏112‏)‏ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏114‏)‏ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏115‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

ولما عرض عليهم التقوى بالرفق، وعلل ذلك بما ثبت به أمرها، تسبب عنه الجزم بالأمر فقال‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي أوجدوا الخو والحذر والتحرز من الذي اختص بالجلال والجمال، مبادرين إلى ذلك بتوحيده لتحرزوا أصل السعادة فتكونوا من أهل الجنة ‏{‏وأطيعون*‏}‏ أي في كل ما آمركم لتحرزوا رتبة الكمال في ذلك، فلا يمسكم عذاب‏.‏

ولما أثبت أمانته، نفى تهمته فقال‏:‏ ‏{‏وما أسألكم عليه‏}‏ أي على هذا الحال الذي أتيتكم به؛ وأشار إلى الإعراق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من أجر‏}‏ أي ليظن ظان أني جعلت الدعاء سبباً له؛ ثم أكد هذا النفي بقوله‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أجري‏}‏ أي في دعائي لكم ‏{‏إلا على رب العالمين*‏}‏ أي الذي دبر جميع الخلائق ورباهم‏.‏

ولما انتفت التهمة، تسبب عن انتفائها أيضاً ما قدمه، فأعاده إعلاماً بالاهتمام بذلك زيادة في الشفقة عليهم وتأكيداً له في قلوبهم تنبيهاً على أن الأمر في غاية العظمة لما يعلم من قلوبهم من شدة الجلافة فقال‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي الذي حاز جميع صفات العظمة ‏{‏وأطيعون‏}‏‏.‏

ولما قام الدليل على نصحه وأمانته، أجابوا بما ينظر إلى محض الدنيا كما أجاب من قال من أشراف العرب ‏{‏ما لهذا الرسول‏}‏ الآيات، وقال‏:‏ لو طردت هؤلاء الضعفاء لرجونا أن نتبعك حتى نزل في ذلك ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ ونحوها من الآيات، بأن ‏{‏قالوا‏}‏ أي قومه، منكرين لاتباعه استناداً إلى داء الكبر الذي ينشأ منه بطر الحق وغمط الناس- أي احتقارهم‏:‏ ‏{‏أنؤمن لك‏}‏ أي لأجل قولك هذا وما أثبته أوصافك ‏{‏و‏}‏ الحال أنه قد ‏{‏اتبعك الأرذلون*‏}‏ أي المؤخرون في الحال والمآل، والأحوال والأفعال، فيكون إيماننا بك سبباً لاستوائنا معهم، فلو طردتهم لم يكن لنا عذر في التخلف عنك، ولا مانع من اتباعك، فكان ما متعوا به من العرض الفاني مانعاً لهم عن السعادة الباقية، وأما الضعفاء فانكسار قلوبهم وخلوّها عن شاغل موجبٌ لإقبالها على الخير وقبولها له، لأن الله تعالى عند المنكسرة قلوبهم، وهكذا قالت قريش في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما زالت أتباع الرسل كذلك حتى صارت من سماتهم وأماراتهم كما قال هرقل في سؤاله عن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان مثال المستكبرين مثال شخص كان آخر دونه بدرجة، فأصبح فوقه بدرجة، فأنف من أن يرتقي إلى درجته لئلا يساويه، ورضي لنفسه أن يكون دونه، فما اسخف عقله‏!‏ وما أكثر جهله‏!‏ فلا شيء أبين من هذا في أن التقدم في الأمور الدنيوية داء لا دواء له إلا إماتة النفس بالتبرؤ منه والبعد عنه‏.‏

ولما كانت الجواهر متساوية في أنها مخلوقات الله، وإنما تتشرف بآثارها، فالآدمي إنما يشرف أو يرذل بحاله من قاله وفعاله، أشار إلى أنه يعتبر ما هم عليه الآن من الأحوال الرفيعة، والأوصاف البديعة، فلذلك ‏{‏قال‏}‏ نافياً لعلمه بما قالوه في صورة استفهام إنكاري‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي وأيّ شيء ‏{‏علمي بما كانوا يعملون*‏}‏ أي قبل أن يتبعوني، أي وما لي وللبحث عن ذلك، إنما لي ظاهرهم الآن وهو خير ظاهر، فهم الأشرفون وإن كانوا أفقر الناس وأخسّهم نسباً، فإن الغني غني الدين، والنسب نسب التقوى؛ ثم أكد أنه لا يبحث عن بواطنهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏حسابهم‏}‏ أي في الماضي والآتي ‏{‏إلا على ربي‏}‏ المحسن إليّ باتباعهم لي ليكون لي مثل أجرهم، المخفف عني أن يكلفني بحاسبهم وتعرف بواطنهم، لأنه المختص بضبط جميع الأعمال والحساب عليها ‏{‏لو تشعرون*‏}‏ أي لو كان لكم نوع شعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم مما هو دائر على أمور الدنيا فقط، ولا نظر له إلى يوم الحساب‏.‏

ولما أفهم قوله رد ما أفهمه قولهم من طردهم، صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي ولست ‏{‏أنا بطارد المؤمنين*‏}‏ أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً فلم يرتدوا عنه للطمع في إيمانكم ولا لغيره من اتباع شهواتكم؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أنا إلا نذير‏}‏ أي محذر، لا وكيل مناقش على البواطن، ولا متعنت على الاتباع ‏{‏مبين*‏}‏ أوضح ما أرسلت به فلا أدع فيه لبساً‏.‏

ولما أياسهم مما أرادوا من طرد أتباعه لما أوهموا من اتباعه لو طردهم خداعاً، أقبلوا على التهديد، فاستأنف سبحانه الإخبار عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا لئن لم تنته‏}‏ ثم سموه باسمه جفاء وقلة أدب فقالوا‏:‏ ‏{‏يا نوح لتكونن من المرجومين*‏}‏ أي المقتولين، ولا ينفعك أتباعك هؤلاء الضعفاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 129‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ‏(‏117‏)‏ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏119‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏121‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏122‏)‏ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏125‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏126‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏127‏)‏ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ‏(‏128‏)‏ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

ولما أيس منهم بما سمع من المبالغة بالتأكيد في قولهم، ورأى بما يصدقه من فعلهم، قال تعالى مخبراً عنه جواباً لسؤال من يريد تعرف حاله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ شاكياً إلى الله تعالى ما هو أعلم به منه توطئة للدعاء عليهم وإلهاباً إليه وتهييجاً، معرضاً عن تهديدهم له صبراً واحتساباً، لأنه من لازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واكتفاء عنه بسببه‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ أي أيها المحسن إليّ‏.‏

ولما كان الحال مقتضياً لأن يصدقوه لما له في نفسه من الأمانة، وبهم من القرابة، ولما أقام على ما دعاهم إليه من الأدلة مع ما له في نفسه من الوضوح، أكد الإخبار بتكذيبهم، إعلاماً بوجوده، وبإنه تحققه منهم من غير شك فقال‏:‏ ‏{‏إن قومي كذبون*‏}‏ أي فلا نية لهم في اتباعي ‏{‏فافتح‏}‏ أي احكم ‏{‏بيني وبينهم فتحاً‏}‏ أي حكماً يكون لي فيه فرج، وبه من الضيق مخرج، فأهلك المبطلين وأنجز حتفهم ‏{‏ونجني ومن معي‏}‏ أي في الدين ‏{‏من المؤمنين*‏}‏ مما تعذب به الكافرين‏.‏

ولما كان في إهلاكهم وإنجائه من بديع الصنع ما يجل عن الوصف، أبرزه في مظهر العظمة فقال‏:‏ ‏{‏فأنجيناه ومن معه‏}‏ أي ممن لا يخالفه في الدين على ضعفهم وقتلهم ‏{‏في الفلك‏}‏ ولما كانت سلامة المملوء جداً أغرب قال‏:‏ ‏{‏المشحون*‏}‏ أي المملوء بمن حمل فيه من الناس والطير وسائر الحيوان وما حمل من زادهم وما يصلحهم‏.‏

ولما كان إغراقهم كلهم من الغرائب عظمه بأداة البعد- ومظهر العظمة فقال‏:‏ ‏{‏ثم أغرقنا بعد‏}‏ أي بعد حمله الذي هو سبب إنجائه ‏{‏الباقين*‏}‏ أي من بقي على الأرض ولم يركب معه في السفينة على قوتهم وكثرتهم، وكان ذلك علينا يسيراً‏.‏

ولما كان ذلك أمراً باهراً، عظمه بقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم من الدعاء والإمهال ثم الإنجاء والإهلاك ‏{‏لآية‏}‏ أي عظيمة لمن شاهد ذلك أو سمع به، على أنا ننتقم ممن عصانا، وننجي من أطاعنا، وأنه لا أمر لأحد معنا فيهديه إلى الإيمان، ويحمله على الاستسلام والإذعان ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنه ما ‏{‏كان أكثرهم‏}‏ أي أكثر العالمين بذلك ‏{‏مؤمنين*‏}‏ وقد ينبغي لهم إذ فاتهم الإيمان لمحض الدليل أن يبادروا إليه ويركبوا معه حين رأوا أوائل العذاب أو بعد أن ألجمهم الغرق ‏{‏وإن ربك‏}‏ المحسن إليك بإرسالك، وتكثير أتباعك، وتعظيم أشياعك ‏{‏لهو العزيز‏}‏ أي القادر بعزته على كل من قسرهم على الطاعة، وإهلاكهم في أول أوقات المعصية ‏{‏الرحيم*‏}‏ أي الذي يخص من يشاء من عباده بخالص وداده، ويرسل إلى الضالين عن محجة العقل القويمة الرسل لبيان ما يجب وما يكره، فلا يهلك إلا بعد البيان الشافي، والإبلاغ الوافي‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ إن هذا لأمر هائل، في مثله موعظة، فما فعل من جاء بعدهم‏؟‏ هل اتعظ‏؟‏ أجيب بقوله دلالة على الوصفين معاً‏:‏ ‏{‏كذبت عاد‏}‏ أي تلك القبيلة التي مكن الله لها في الأرض بعد قوم نوح ‏{‏المرسلين*‏}‏ بالإعراض عن معجزة هود عليه الصلاة والسلام؛ ثم سلى هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏قال لهم أخوهم هود‏}‏ لم يتوقفوا في تكذيبه ولم يتأخروا عن وقت دعائه لتأمل ولا غيره، وقد عرفوا صدق إخائه، وعظيم نصحه ووفائه ‏{‏ألا‏}‏ بصيغة العرض تأدباً معهم وتلطفاً بهم ولينالهم ‏{‏تتقون*‏}‏ أي تكون منكم تقوى لربكم الذي خلقكم فتعبدوه وحده ولا تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع؛ ثم علل بقوله‏:‏ ‏{‏إني لكم رسول‏}‏ أي فهو الذي حملني على أن أقول لكم ذلك ‏{‏أمين‏}‏ أي لا أكتم عنكم شيئاً مما أمرت به ولا أخالف شيئاً منه ‏{‏فاتقوا‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم‏:‏ اتقوا ‏{‏الله‏}‏ الذي هو أعظم من كل شيء ‏{‏وأطيعون*‏}‏ أي في كل ما آمركم به من دوام تعظيمه ‏{‏وما‏}‏ أي أنا رسول داع والحال أني ما ‏{‏أسئلكم عليه‏}‏ أي الدعاء ‏{‏من أجر‏}‏ فتتهموني به ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أجري إلا على رب العالمين*‏}‏‏.‏

ولما فرغ من الدعاء إلى الأصل، وهو الإيمان بالرسول والمرسل، أتبعه إنكار بعض ما هم عليه مما أوجبه الكفر، وأوجب الاشتغال به الثبات على الغي، واعظاً لهم بما كان لمن قبلهم من الهلاك، مقدمة على زيادة التأكيد في التقوى والطاعة لأن حالهم حال الناسي لذلك الطوفان، الذي أهلك الحيوان، وهدم البنيان فقال‏:‏ ‏{‏أتبنون بكل ريع‏}‏ أي مكان مرتفع؛ قال أبو حيان‏:‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الريع الطريق‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الفج بين الجبلين، وقيل‏:‏ السبيل سلك أم لم يسلك‏.‏ وأصله في اللغة الزيادة ‏{‏آية‏}‏ أي علامة على شدتكم لأنه لو كان لهداية أو نحوها لكفى بعض الأرياع دون كلها‏.‏

ولما كان إقامة الدليل على قوتهم بمثل ذلك قليل الجدوى عند التأمل، قال‏:‏ ‏{‏تعبثون*‏}‏ والعاقل ينبغي له أن يصون أوقاته النفيسة عن العبث الذي لا يكون سبب نجاته، وكيف يليق ذلك بمن الموت من ورائه‏.‏

ولما كان من يموت لا ينبغي له إنكار الموت بفعل ولا قول قال‏:‏ ‏{‏وتتخذون مصانع‏}‏ أي أشياء بأخذ الماء، أو قصوراً مشيدة وحصوناً تصنعونها، هي في إحكامها بحيث تأكل الدهر قوة وثباتاً، فلا يبنيها إلا من حاله حال الراجي للخلود، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏لعلكم تخلدون*‏}‏ وهو معنى ما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسيرها بكأنكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 143‏]‏

‏{‏وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ‏(‏130‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏131‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ‏(‏132‏)‏ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ‏(‏133‏)‏ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏134‏)‏ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏135‏)‏ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ‏(‏136‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏137‏)‏ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏138‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏140‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏141‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏142‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏143‏)‏‏}‏

ولما بين أن عملهم عمل من لا يخاف الموت، أتبعه ما يدل على أنهم لا يظنون الجزاء فقال‏:‏ ‏{‏وإذا بطشتم‏}‏ أي بأحد، أخذتموه أخذ سطوة في عقوبة ‏{‏بطشتم جبارين*‏}‏ أي غير مبالين بشيء من قتل أو غيره؛ قال البغوي‏:‏ والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب‏.‏

ولما خوفهم لهذا الإنكار عقاب الجبار، تسبب عنه أن قال‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام ‏{‏وأطيعون*‏}‏‏.‏

ولما كان ادكار الإحسان موجباً للإذعان، قال مرغباً في الزيادة ومرهباً من الحرمان‏:‏ ‏{‏واتقوا الذي أمدكم‏}‏ أي جعل لكم مدداً، وهو إتباع الشيء بما يقويه على الانتظام ‏{‏بما تعلمون*‏}‏ أي ليس فيه نوع خفاء حتى تعذروا في الغفلة عن تقييده بالشكر‏.‏

ولما أجمل، فصل ليكون أكمل، فقال‏:‏ ‏{‏أمدكم بأنعام‏}‏ أي تعينكم على الأعمال وتأكلون منها وتبيعون‏.‏ ولما قدم ما يقيم الأود، أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏وبنين*‏}‏ أي يعينونكم على ما تريدون عند العجز‏.‏ ثم أتبعه ما يحصل كمال العيش فقال‏:‏ ‏{‏وجنات‏}‏ أي بساتين ملتفة الأشجار بحيث تستر داخلها، وأشار إلى دوام الريّ بقوله‏:‏ ‏{‏وعيون*‏}‏‏.‏

ولما كانوا في إعراضهم كأنهم يقولون‏:‏ ما الذي تبقيه منه‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏إني أخاف عليكم‏}‏ أي لأنكم قومي يسوءني ما يسوءكم- إن تماديتم على المعصية ‏{‏عذاب يوم عظيم*‏}‏ وتعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب ‏{‏قالوا‏}‏ راضين بما عندهم من داء الإعجاب، الموقع في كل ما عاب، ‏{‏سواء علينا أوعظت‏}‏ أي خوفت وحذرت وكنت علامة زمانك في ذلك بأن تقول منه ما لم يقدر أحد على مثله، دل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏أم لم تكن من الواعظين*‏}‏ أي متأهلاً لشيء من رتبة الراسخين في الوعظ، معدوداً في عدادهم، مذكوراً فيما بينهم، فهو أبلغ من «أم لم تعظ» أو «تكن واعظاً، والوعظ- كما قال البغوي‏:‏ كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد‏.‏ والمعنى أن الأمر مستوٍ في الحالتين في أنا لا نطيعك في شيء؛ ثم عللوا ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏هذا‏}‏ أي الذي جئتنا به ‏{‏إلا خلق‏}‏ بفتح الخاء وإسكان اللام في قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ‏{‏الأولين*‏}‏ أي كذبهم، أو ما هذا الذي نحن فيه إلا عادة الأولين في حياة ناس وموت آخرين، وعافية قوم وبلاء آخرين، وعليه تدل قراءة الباقين بضم الخاء واللام ‏{‏وما نحن بمعذبين*‏}‏ لأنا أهل قوة وشجاعة ونجدة وبراعة‏.‏

ولما تضمن هذا التكذيب، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فكذبوه‏}‏ ثم سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فأهلكناهم‏}‏ أي بالريح بما لنا من العظمة التي لا تذكر عندها عظمتهم، والقوة التي بها كانت قوتهم ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الإهلاك في كل قرن للعاصين والإنجاء للطائعين ‏{‏لآية‏}‏ أي عظيمة لمن بعدهم على أنه سبحانه فاعل ذلك وحده بسبب أنه يحق الحق ويبطل الباطل، وأنه مع أوليائه ومن كان معه لا يذل وعلى أعدائه ومن كان عليه لا يعز ‏{‏وما كان أكثرهم‏}‏ أي أكثر من كان بعدهم ‏{‏مؤمنين*‏}‏ فلا تحزن أنت على من أعرض عن الإيمان ‏{‏وإن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإرسالك وغيره من النعم ‏{‏لهو العزيز‏}‏ في انتقامه ‏{‏الرحيم*‏}‏ في إنعامه وإكرامه وإحسانه، مع عصيانه وكفرانه، وإرسال المنذرين وتأييدهم بالآيات المعجزة لبيان الطريق الأقوم، والمنهج الأسلم، فلا يهلك إلا بعد الإعذار بأبلغ الإنذار؛ ثم دل على ذلك لمن قد ينسى إذ كان الإنسان مجبولاً على النسيان بقوله‏:‏ ‏{‏كذبت ثمود‏}‏ وهو أهل الحجر ‏{‏المرسلين*‏}‏ وأشار إلى زيادة التسلية بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تأمل ولا توقف بقوله‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏قال لهم أخوهم‏}‏ أي الذي يعرفون صدقه وأمانته، وشفقته وصيانته ‏{‏صالح‏}‏ وأشار إلى تلطفه بهم بقوله على سبيل العرض ‏{‏ألا تتقون*‏}‏ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إني لكم رسول‏}‏ أي من الله، فلذلك عرضت عليكم هذا لأني مأمور بذلك، وإلا لم أعرضه عليكم ‏{‏أمين*‏}‏ لا شيء من الخيانة عندي، بل أنصح لكم في إبلاغ جميع ما أرسلت به إليكم من خالقكم، الذي لا أحد أرحم بكم منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144- 154‏]‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏144‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏145‏)‏ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ‏(‏146‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏147‏)‏ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ‏(‏148‏)‏ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ‏(‏149‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏150‏)‏ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏151‏)‏ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏152‏)‏ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

ولما قدم ذكر الرسالة فصار له عذر في المواجهة بالأمر، سبب عنه قوله ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق‏.‏ ولما ذكر الأمانة قال‏:‏ ‏{‏وأطيعون*‏}‏‏.‏

ولما أثبت ما يوجب الإقبال عليه، نفى ما يستلزم عادة الإدبار عنه فقال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي إني لكم كذا والحال أني ما ‏{‏أسئلكم عليه‏}‏ وأعرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من أجر‏}‏ ثم زاد في تأكيد هذا النفي بقوله‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أجري‏}‏ على أحد ‏{‏إلا على رب العالمين*‏}‏ أي المحسن إليهم أجمعين، منه أطلب أن يعطيني كما أعطاهم‏.‏

ولما ثبتت الأمانة، وانتفى موجب الخيانة، شرع ينكر عليهم أكل خيره وعبادة غيره، فقال مخوفاً لهم من سطواته، ومرغباً في المزيد من خيراته‏.‏ منكراً عليهم إخلادهم إلى شهوة البطن، واستنادهم إلى الرفاهية والرضى بالفاني‏:‏ ‏{‏أتتركون‏}‏ أي من ايدي النوائب التي لا يقدر عليها إلا الله ‏{‏في ما هاهنا‏}‏ أي في بلادكم هذه من النعم حال كونكم ‏{‏آمنين*‏}‏ أي أنتم تبارزون الملك القهار بالعظائم‏.‏

ولما كان للتفسير بعد الإجمال شأن‏.‏ بين ما أجمل بقوله مذكراً لهم بنعمة الله ليشكروها‏:‏ ‏{‏في جنات‏}‏ أي بساتين تستر الداخل فيها وتخفيه لكثرة أشجارها ‏{‏وعيون*‏}‏ تسقيها مع ما لها من البهجة وغير ذلك من المنافع ‏{‏وزروع‏}‏ وأشار إلى عظم النخيل ولا سيما ما كان عندهم بتخصيصها بالذكر بعد دخولها في الجنات بقوله‏:‏ ‏{‏ونخل طلعها‏}‏ أي ما يطلع منها من الثمر؛ قال الزمخشري‏:‏ كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، والقنو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه‏.‏ ‏{‏هضيم*‏}‏ أي جواد كريم من قولهم‏:‏ يد هضوم- إذا كانت تجود بما لديها، وتفسيره بذلك يجمع أقوال العلماء، وإليه يرجع ما قال أبو عبد الله القزاز معناه أنه قد هضم- أي ضغط- بعضه بعضاً لتراكمه، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كثير متقارب النضد، لا فرج بينه، ولطيف لين هش طيب الرائحة، من الهضم بالتحريك، وهو خمس البطن ولطف الكشح؛ والهاضم وهو ما فيه رخاوة، والهضم‏:‏ البخور، والمهضومة‏:‏ طيب يخلط بالمسك واللبان؛ قال الرازي في اللوامع‏:‏ أو يانع نضيج لين رخو ومتهشم متفتت إذا مس، أو يهضم الطعام، وكل هذا يرجع إلى لطافته‏.‏

ولما ذكر اللطيف من أحوالهم، أتبعه الكثيف من أفعالهم، فقال عطفاً على ‏{‏أتتركون‏}‏ أو مبيناً لحال الفاعل في ‏{‏آمنين‏}‏‏:‏ ‏{‏وتنحتون‏}‏ أي والحال أنكم تنحتون إظهاراً للقدرة ‏{‏من الجبال بيوتاً فارهين*‏}‏ أي مظهرين النشاط والقوة، تعظيماً بذلك وبطراً، لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك ‏{‏فاتقوا‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم‏:‏ اتقوا ‏{‏الله‏}‏ الذي له جميع العظمة بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية باتباع أوامره؛ واجتناب زواجره ‏{‏وأطيعون*‏}‏ أي في كل ما آمركم به وأنهاكم عنه‏.‏

فإني لا آمركم إلا بما يصلحكم فيكون سبباً لحفظ ما أنتم فيه وتزدادون ‏{‏ولا تطيعوا‏}‏‏.‏

ولما كان لانقياد للآمر إنما هو بواسطة ما ظهر من أمره قال‏:‏ ‏{‏أمر المسرفين*‏}‏ اي المتجاوزين للحدود الذي صار لهم ذلك خلقاً‏:‏ ثم وصفهم بما بين إسرافهم، وهو ارتكاب الفساد الخالص المصمت الذي لا صلاح معه فقال‏:‏ ‏{‏الذين يفسدون في الأرض‏}‏ أي يعملون ما يؤدي إلى الفساد لكونه غير محكم باستناده إلى الله‏.‏

ولما كان ربما ادعى في بعض الفساد أن فيه صلاحاً، نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يصلحون*‏}‏ أي لأنهم أسسوا أمرهم على الشرط فصاروا بحيث لا يصلح لهم عمل وإن تراءى غير ذلك، أو أن المعنى أن المسرف من كان عريقاً في الإسراف بجمع هذين الأمرين‏.‏

ولما دعا إلى الله تعالى بما لا خلل فيه، فعلموا أنهم عاجزون عن الطعن في شيء منه، عدلوا إلى التخييل على عقول الضعفاء بأن ‏{‏قالوا إنما أنت من المسحرين*‏}‏ أي الذين بولغ في سحرهم مرة بعد مرة مع كونهم آدميين ذمي سحور، وهي الرئات، فأثر فيك السحر حتى غلب عليك؛ ونقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه‏:‏ من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب، يقال‏:‏ سحره أي علله بالطعام والشراب‏.‏ ويؤيده تفسيره بقولهم إشارة إلى أنه لا يصلح للرسالة‏:‏ ‏{‏ما أنت إلا بشر مثلنا‏}‏ أي فما وجه خصوصيتك عنا بالرسالة، وهل يكون الرسول من البشر، وإتباعهم الوصف الوصف من غير عطف عليه يدل على أنهم غير جازمين بتكذيبه‏.‏ فالوصفان عندهم بمنزلة شيء واحد كما إذا قيل‏:‏ الزمان حلو حامض، أي مر، ويؤيد كونهم في رتبة الشك لم يتجاوزوها إلى الجزم أو الظن بالتكذيب قولهم‏:‏ ‏{‏فأت بآية‏}‏ أي علامة تدلنا على صدقك ‏{‏إن كنت‏}‏ أي كوناً هو غاية الرسوخ ‏{‏من الصادقين*‏}‏ أي العريقين في الصدق بخلاف ما يأتي قريباً في قصة شعيب عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 163‏]‏

‏{‏قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏155‏)‏ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏156‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ‏(‏157‏)‏ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏158‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏159‏)‏ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏160‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏161‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏162‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏163‏)‏‏}‏

ولما أسرع الله تعالى في إجابته حين دعا أن يعطيهم ما اقترحوا، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي جواباً لاقتراحهم‏:‏ تعالوا نظروا ما آتيكم به آية على صدقي، فأتوا فأخرج الله له من الصخرة ناقة عشراء كما اقترحوا، فقال مشيراً إليها بأداة القرب إشارة إلى سهولة إخراجها وسرعته‏:‏ ‏{‏هذه ناقة‏}‏ أي أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم؛ ثم أشار إلى أن في هذه الآية آية أخرى بكونها تشرب ماء البئر كله في يوم وردها وتكف عنه في اليوم الثاني لأجلهم، بقوله‏:‏ ‏{‏لها شرب‏}‏ أي نصيب من الماء في يوم معلوم ‏{‏ولكم شرب يوم‏}‏ أي نصيب من الماء في يوم ‏{‏معلوم*‏}‏ لازحام بينكم وبينها في شيء من ذلك‏.‏

ولما أرشد السياق إرشاداً بَيِّناً إلى أن المعنى‏:‏ فخذوا شربكم واتركوا لها شربها، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولا تمسوها بسوء‏}‏ أي كائناً ما كان وإن قل، لأن ما كان من عند الله يجب إكرامه، ورعايته واحترامه؛ ثم خوفهم بما يتسبب عن عصيانهم فقال‏:‏ ‏{‏فيأخذكم‏}‏ أي يهلككم ‏{‏عذاب يوم عظيم*‏}‏ بسبب ما حل فيه من العذاب، فهو أبلغ من وصف العذاب بالعظم، وأشار إلى سرعة عصيانهم بفاء التعقيب في قوله‏:‏ ‏{‏فعقروها‏}‏ أي قتلوها بضرب ساقها بالسيف‏.‏

ولما تسبب عن عقرها حلول مخايل العذاب، أخبر عن ندمهم على قتلها من حيث إنه يفضي إلى الهلاك، لا من حيث إنه معصية لله ورسوله‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏فأصبحوا نادمين*‏}‏ أي على عقرها لتحقق العذاب؛ وأشار إلى أن ذلك الندم لا على وجه التوبة أو أنه عند رؤية البأس فلم ينفع، أو أن ذلك كناية عن أن حالهم صار حال النادم، لا أنه وجد منهم ندم على شيء ما، فإنه نقل عنهم أنه أتاهم العذاب العذاب وهو يحاولون أن يقتلوا صالحاً عليه السلام، بقوله‏:‏ ‏{‏فأخذهم العذاب‏}‏ أي المتوعد به‏.‏

ولما كان في الناقة وفي حلول المخايل كما تقدم أعظم دليل على صدق الرسول الداعي إلى الله قال‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏ أي دلالة عظيمة على صحة ما أمروا به عن الله، ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنه مع ذلك ما ‏{‏كان أكثرهم مؤمنين*‏}‏‏.‏

ولما كان ربما توهم أنه سبحانه غير متصف بالعزة لعدم قسرهم على الإيمان، أو بالرحمة لإهلاكهم، قال‏:‏ ‏{‏وإن ربك لهو العزيز‏}‏ أي فلا يخرج شيء من قبضته وإرادته، وهو الذي أراد لهم الكفر ‏{‏الرحيم*‏}‏ في كونه لم يهلك أحداً حتى أرسل إليهم رسولاً فبين لهم ما يرضاه سبحانه وما يسخطه، وأبلغ في إنذارهم حتى أقام الحجة بذلك، ثم هو سبحانه يضل من يشاء لما تعلم من طبعه على ما يقتضي الشقاوة، ويوفق من علم منه الخير لما يرضيه، فيتسبب عن ذلك سعادته، وفي تكريره سبحانه هذه الآية آخر كل قصة على وجه التأكيد وإتباعها ما دلت عليه من كفر من أتى بعد أصحابها‏.‏

من غير اتعاظ بحالهم، ولا نكوب عن مثل ضلالهم، خوفاً من نظير نكالهم، أعظم تسلية لهذا النبي الكريم، وتخويف لكل عليم حليم، واستعطاف لكل ذي قلب سيلم، ولذلك قال واصلاً بالقصة‏:‏ ‏{‏كذبت‏}‏ أي دأب من تقدم كأنهم تواصوا به ‏{‏قوم لوط المرسلين*‏}‏ لأن من كذب رسولاً- كما مضى- فقد كذب الكل، لتساوي المعجزات في الدلالة على الصدق‏.‏ وقد صرحت هذه الآية بكفرهم بالتكذيب‏.‏ وبين إسراعهم في الضلال بقوله‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏قال لهم أخوهم‏}‏ أي في السكنى في البلد لا في النسب لأنه ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وهما من بلاد الشرق من بلاد بابل- وكأنه عبر بالأخوة لاختياره لمجاورتهم، ومناسبتهم بمصاهرتهم، وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدة، وسنين عديدة، وإتيانه بالأولاد من نسائهم، مع موافقته لهم في أنه قروي، ثم بينه بقوله‏:‏ ‏{‏لوط ألا تتقون*‏}‏ أي تخافون الله فتجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية‏.‏

ولما كان مضمون هذا الدعاء لهم والإنكار عليهم في عدم التقوى علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إني لكم‏}‏ أي خاصة ‏{‏رسول أمين*‏}‏ أي لا شيء من غش ولا خيانة عندي، ولذلك سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي لقدرته على إهلاك من يريد وتعاليه في عظمته ‏{‏وأطيعون*‏}‏ أي لأن طاعتي سبب نجاتكم، لأني لا آمركم إلا بما يرتضيه‏.‏ ولا أنهاكم إلا عما يغضبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 171‏]‏

‏{‏وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏164‏)‏ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏165‏)‏ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ‏(‏166‏)‏ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ‏(‏167‏)‏ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ‏(‏168‏)‏ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏169‏)‏ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏170‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

ولما أثبت الداعي إلى طاعته، نفى الناهي عنها فقال‏:‏ ‏{‏وما أسئلكم عليه‏}‏ أي الدعاء إلى الله ‏{‏من أجر‏}‏ أي فتتهموني بسببه؛ ونفى سؤاله لغيرهم من الخلائق بتخصيصه بالخالق فقال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أجري إلا على رب العالمين*‏}‏ أي المحسن إليهم بإيجادهم ثم تربيتهم‏.‏ فلما وجدوا المقتضى لاتباعه وانتفى المانع، أنكر عليهم ما يوجب عذابهم من إيثارهم شهوة الفرج المخرج لهم إلى ما صاروا به سبة في الخلق فقال موبخاً مقرعاً بياناً لتفاحش فعلهم وعظمه‏:‏ ‏{‏أتأتون‏}‏ أي إتيان المعصية ‏{‏الذكران‏}‏ ولعلهم كانوا يفعلون بالذكور من غير الآدميين توغلاً في الشر وتجاهراً بالتهتك لقوله‏:‏ ‏{‏من العالمين*‏}‏ أي كلهم، أو يكون المعنى‏:‏ من بين الخلائق، أي أنكم اختصصتم بإتيان الذكران، لم يفعل هذا الفعل غيركم من الناكحين من الخلق ‏{‏وتذرون‏}‏ أي تتركون لهذا الغرض ‏{‏ما خلق لكم‏}‏ أي النكاح ‏{‏ربكم‏}‏ المحسن إليكم ‏{‏من أزواجكم‏}‏ أي وهن الإناث، على أن «من» للبيان، ويجوز أن تكون مبعضة، ويكون المخلوق كذلك هو القبل‏.‏

ولما كانوا كأنهم قالوا‏:‏ نحن لم نترك أزواجنا، حملاً لقوله على الترك أصلاً ورأساً وإن كانوا قد فهموا أن مراده تركهن حال الفعل في الذكور، قال مضرباً عن مقالهم هذا المعلوم تقديره لما أرادوه به، حيدة عن الحق، وتمادياً في الفجور‏:‏ ‏{‏بل أنتم قوم عادون*‏}‏ أي تركتم الأزواج بتعدي الفعل بهن وتجاوزه إلى الفعل بالذكران، وليس ذلك ببدع من أمركم، فإن العدوان- الذي هو مجاوزة الحد في الشر- وصف لكم أنتم عريقون فيه، فلذلك لا تقفون عند حد حده الله تعالى‏.‏

فلما اتضح الحق، وعرف المراد، وكان غريباً عندهم، وتشوف السامع إلى جوابهم، استؤنف الإخبار عنه، فقيل إعلاماً بانقطاعهم وأنهم عارفون أنه لا وجه لهم في ذلك أصلاً لعدولهم إلى الفحش‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ مقسمين‏:‏ ‏{‏لئن لم تنته‏}‏ وسموه باسمه جفاء وغلظة فقالوا‏:‏ ‏{‏يا لوط‏}‏ عن مثل إنكارك هذا علينا‏.‏

ولما كان لما له من العظمة بالنبوة والأفعال الشريفة التي توجب إجلاله وإنكار كل من يسمعهم أن يخرج مثله، زادوا في التأكيد فقالوا‏:‏ ‏{‏لتكونن من المخرجين‏}‏ أي ممن أخرجناه من بلدنا على وجه فظيع تصير مشهوراً به بينهم‏.‏ إشارة إلى أنه غريب عندهم، وأن عادتهم المستمرة نفي من اعترض عليهم، وكان قصدهم بذلك أن يكونوا هم المتولين لإخراجه إهانة له للاستراحة منه، فكان إخراجه، لكن إخراج إكرام للاستراحة منهم والنجاة من عذابهم بتولي الملائكة الكرام ‏{‏قال‏}‏ أي جواباً لهم‏:‏ ‏{‏إني‏}‏ مؤكداً لمضمون ما يأتي به ‏{‏لعملكم‏}‏ ولم يقل‏:‏ قال بل زاد في التأكيد بقوله‏:‏ ‏{‏من القالين*‏}‏ أي المشهورين ببغض هذا العمل الفاحش، العريقين في هذا الوصف، المذكورين بين الناس بمنابذة من يفعله، لا يردني عن إنكاره تهديدكم لي بإخراج ولا غيره، والقلاء‏:‏ بغض شديد كأنه يقلي الفؤاد‏.‏

ولما بادأهم بمثل هذا الذي من شأنه الإفضاء إلى الشر، أقبل على من يفعل ذلك لأجله، وهو القادر على كل شيء العالم بكل شيء، فقال‏:‏ ‏{‏رب نجني وأهلي مما‏}‏ أي من الجزاء الذي يلحقهم لما ‏{‏يعملون*‏}‏‏.‏

ولما قبل سبحانه وتعالى دعاءه، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فنجيناه وأهله‏}‏ مما عذبناهم به بإخراجنا له من بلدهم حين ستخفافهم له، ولم يؤخره عنهم إلى حين خروجه إلا لأجله، وعين سبحانه المراد مبيناً أن أهله كثير بقوله‏:‏ ‏{‏أجمعين*‏}‏ أي أهل بيته والمتبعين له على دينه ‏{‏إلا عجوزاً‏}‏ وهي امرأته، كائنة ‏{‏في‏}‏ حكم ‏{‏الغابرين*‏}‏ أي الماكثين الذي تلحقهم الغبرة بما يكون من الداهية فإننا لن ننجها لقضائنا بذلك في الأزل، لكونها لم تتابعه في الدين، وكان هواها مع قومها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 180‏]‏

‏{‏ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏172‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏173‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏174‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏175‏)‏ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏176‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏178‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏179‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

ولما ذكر نجاته المفهمة لهلاكهم، صرح به على وجه هوله بأداة التراخي لما علم غير مرة أنه كان عقب خروجه، لم يتخلل بينهما مهلة فقال‏:‏ ‏{‏ثم دمرنا‏}‏ أي أهلكنا هلاكاً بغتة صلباً أصمّ في غاية النكد، وما أحسن التعبير عنهم بلفظ ‏{‏الآخرين*‏}‏ لإفهام تأخرهم من كل وجه‏.‏

ولما كان معنى ‏{‏دمرنا‏}‏‏:‏ حكمنا بتدميرهم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأمطرنا‏}‏ ودل على العذاب بتعديته ب «على» فقال‏:‏ ‏{‏عليهم مطراً‏}‏ أي وأي مطر، ولذلك سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فساء مطر المنذرين*‏}‏ أي ما أسوأ مطر الذين خوفهم لوط عليه السلام بما أشار إليه إنكاره وتعبيره بالتقوى والعدوان‏.‏

ولما كان في جري المكذبين والمصدقين على نظام واحد من الهلاك والنجاة أعظم عبرة وأكبر موعظة، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏ أي دلالة عظيمة على صدق الرسل في جميع ترغيبهم وترهيبهم وتبشيرهم وتحذيرهم‏.‏

ولما كان من أتى بعد هذه الأمم كقريش ومن تقدمهم قد علموا أخبارهم، وضموا إلى بعض الأخبار نظر الديار، والتوسم في الآثار قال معجباً من حالهم في ضلالهم‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنه ما ‏{‏كان أكثرهم مؤمنين*‏}‏‏.‏

ولما كان في ذلك إشارة إلى الإنذار بمثل ما حل بهم من الدمار، أتبعه التصريح بالتخويف والإطماع فقال‏:‏ ‏{‏وإن ربك لهو‏}‏ أي وحده ‏{‏العزيز‏}‏ أي في بطشه بأعدائه ‏{‏الرحيم*‏}‏ في لطفه بأوليائه، ورفقه بأعدائه بإرسال الرسل، وبيان كل مشكل؛ ثم وصل بذلك دليله، فقال مذكراً الفعل لشدة كفرهم بدليل ما يأتي من إثبات الواو في ‏{‏وما أنت إلا بشر مثلنا‏}‏‏:‏ ‏{‏كذب أصحاب لئيكة‏}‏ أي الغيضة ذات الأرض الجيدة التي تبتلع الماء فتنبت الشجر الكثير الملتف ‏{‏المرسلين*‏}‏ لتكذيبهم شعيباً عليه السلام فيما أتى به من المعجزة السماوية في خرق العادة وعجز المتحدّين بها عن مقاومتها- لبقية المعجزات الآتي بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ‏{‏إذ قال لهم‏}‏‏.‏

ولما كانوا أهل بدو وكان هو عليه السلام قروياً، قال‏:‏ ‏{‏شعيب‏}‏ ولم يقل‏:‏ أخوهم، إشارة إلى أنه لم يرسل نبياً إلا من أهل القرى، تشريفاً لهم لأن البركة والحكمة في الاجتماع، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعرب بعد الهجرة، وقال‏:‏ «من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة» ‏{‏ألا تتقون*‏}‏ أي تكونون من أهل التقوى، وهو مخافة من الله سبحانه وتعالى‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما لك ولهذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏إني‏}‏ وأشار إلى تبشيرهم إن أطاعوه بقوله‏:‏ ‏{‏لكم رسول‏}‏ أي من الله، فهو أمرني أن أقول لكم ذلك ‏{‏أمين*‏}‏ أي لا غش عندي ولا خداع ولا خيانه، فلذلك أبلغ جميع ما أرسلت به، ولذلك سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي المستحق لجميع العظمة، وهوالمحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها ‏{‏وأطيعون*‏}‏ أي لما ثبت من نصحي‏.‏

ولا قدم ما هو المقصود بالذات‏.‏ عطف على خبر ‏{‏إن‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏وما أسئلكم عليه من أجر‏}‏ نفياً لما ينفر عنه؛ ثم زاد في البراءة مما يوكس من الطمع في أحد من الخلق فقال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أجري إلا على رب العالمين*‏}‏ أي المحسن إلى الخلائق كلهم، فأنا لا أرجو أبداً أحداً يحتاج إلى الإحسان إليه، وإنما أعلق أملي بالمحسن الذي لا يحتاج إلى أحد، وكل أحد سائل من رفده، وآخذ من عنده ولقد اتضح أن الرسل متطابقون في الدعوة في الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص في العبادة، مع النصح والعفة، والأمانة والخشية والمحسبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 189‏]‏

‏{‏أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ‏(‏181‏)‏ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ‏(‏182‏)‏ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏183‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏184‏)‏ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏185‏)‏ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏186‏)‏ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏187‏)‏ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏188‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏189‏)‏‏}‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما الذي تنعى فيه‏؟‏ قال‏:‏ مبيناً أن داءهم حب المال، المفضي لهم إلى سوء الحال، ‏{‏أوفوا الكيل‏}‏ أي أتموه إتماماً لا شبهة فيه إذا كلتم كما توفونه إذا اكتلتم لأنفسكم‏.‏ ولما أمرهم بالإيفاء نهاهم عن النقص على وجه أعم فقال‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا‏}‏ أي كوناً هو كالجبلة، ولعله إشارة إلى ما يعرض من نحو ذلك من الخواطر أو الهيئات التي يغلب الإنسان فيها الطبع ثم يرجع عنها رجوعاً يمحوها، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏من المخسرين*‏}‏ أي الذين يخسرون- أي ينقصون- أنفسهم أديانها بإخسار الناس دنياهم بنقص الكيل أو غيره من أنواع النقص من كل ما يوجب الغبن، فتكونوا مشهورين بذلك بين من يفعله‏.‏

ولما أمر بوفاء الكيل، أتبعه بمثل ذلك في الوزن، ولم يجمعهما لما للتفريق من التعريف بمزيد الاهتمام فقال‏:‏ ‏{‏وزنوا‏}‏ أي لأنفسكم وغيركم ‏{‏بالقسطاس‏}‏ أي الميزان الأقوم؛ وأكد معناه بقوله‏:‏ ‏{‏المستقيم*‏}‏‏.‏

ولما أمر بالوفاء في الوزن، أتبعه نهياً عن تركه عاماً كما فعل في الكيل ليكون آكد فقال‏:‏ ‏{‏ولا تبخسوا‏}‏ أي تنقصوا ‏{‏الناس أشياءهم‏}‏ أي في كيل أو وزن أو غيرهما نقصاً يكون كالسبخة لا فائدة فيه‏.‏ ثم أتبع ذلك بما هو أعم منه فقال‏:‏ ‏{‏ولا تعثوا‏}‏ أي تتصرفوا ‏{‏في الأرض‏}‏ عن غير تأمل حال كونكم ‏{‏مفسدين*‏}‏ أي في المال أو غيره، قاصدين بذلك الإفساد- كما تقدم بيانه في سورة هود عليه السلام‏.‏

ولما وعظهم فابلغ في وعظهم بما ختمه بالنهي عن الفساد، خوفهم من سطوات الله تعالى ما أحل بمن هو أعظم منهم فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الذي خلقكم‏}‏ أي فإعدامكم أهون شيء عليه، وأشار إلى ضعفهم وقوة من كان قبلهم بقوله‏:‏ ‏{‏والجبلة‏}‏ أي الجماعة والأمة ‏{‏الأولين*‏}‏ الذين كانوا على خلقة وطبيعة عظيمة كأنها الجبال قوة وصلابة لا سيما قوم هود عليه السلام الذين هم عرب مثلكم، وقد بلغت بهم الشدة في أبدانهم، والصلابة في جميع أركانهم، إلى أن قالوا ‏{‏من أشد منا قوة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏ وقد بلغكم ما أنزل بهم سبحانه من بأسه، لأن العرب أعلم الناس بأخبارهم‏.‏

ولما كان الحاصل ما مضى الإعلام بالرسالة، والتحذير من المخالفة، لأنها تؤدي إلى الضلالة إلى أن ختم ذلك بالإشارة بالتعبير بالجبلة إلى أن عذابه تعالى عظيم، لا يستعصي عليه صغير ولا كبير، أجابوه بالقدح في الرسالة أولاً، وباستصغار الوعيد ثانياً، بأن ‏{‏قالوا إنما أنت من المسحرين*‏}‏ أي الذين كرر سحرهم مرة بعد أخرى حتى اختبلوا، فصار كلامهم على غير نظام، أو من المعللين بالطعام والشراب كما مضى في صالح عليه السلام، أي فأنت بعيد من الصلاحية للرسالة‏:‏ ثم أشاروا إلى عدم صلاحية البشر مطلقاً لها ولو كانوا أعقل الناس وأبعدهم عن الآفة بقولهم، عاطفين بالواو إشارة إلى عراقته فيما وصفوه به من جهة السحر والسحر، وأنه لا فرق بينه وبينهم‏:‏ ‏{‏وما أنت إلا بشر مثلنا‏}‏ أي فلا وجه لتخصيصك عنا بذلك، والدليل على أن عطف ذلك أبلغ من إتباعه من غير عطف جزمهم بظن كذبه في قولهم؛ ‏{‏وإن‏}‏ أي وإنّا ‏{‏نظنك لمن الكاذبين*‏}‏ أي العريقين في الكذب- هذا مذهب البصريين في أن ‏{‏إن‏}‏ مخففة من الثقيلة، والذي يقتضيه السياق ترجح مذهب الكوفيين هنا في أن ‏{‏إن‏}‏ نافية، فإنهم أرادوا بإثبات الواو في ‏{‏وما‏}‏ المبالغة في نفي إرساله بتعداد ما ينافيه، فيكون مرادهم أنه ليس لنا ظن يتوجه إلى غير الكذب، وهو أبلغ من إثبات الظن به، ويؤيده تسبيبهم عنه سؤاله استهزاء به وتعجيزاً له إنزال العذاب بخلاف ما تقدم عن قوم صالح عليه السلام، فقالوا‏:‏ ‏{‏فأسقط علينا كسفاً‏}‏ بإسكان السين على قراءة الجماعة وفتحها في رواية حفص، وكلاهما جمع كسفة، أي قطعاً ‏{‏من السماء‏}‏ أي السحاب، أو الحقيقة، وهذا الطلب لتصميمهم على التكذيب، ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم فضلاً عن طلبه ولا سيما كونه على وجه التهكم، ولذلك قالوا‏:‏ ‏{‏إن كنت‏}‏ أي كوناً هو لك كالجبلة ‏{‏من الصادقين*‏}‏ أي العريقين في الصدق، المشهورين فيما بين أهله، لنصدقك فيما لزم من أمرك لنا باتخاذ الوقاية من العذاب من التهديد بالعذاب، وما أحسن نظره إلى تهديده لهم بما لله عليهم من القدرة في خلقهم وخلق من كانوا أشد منهم قوة وإهلاكهم بأنواع العذاب لما عصوه بتكذيب رسله‏.‏

ولما كان عذاب العاصي يتوقف على العلم المحيط بأعماله، والقدرة على نكاله، استأنف تعالى الحكاية عنه في تنبيهه لهم على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ مشيراً إلى أنه لا شيء من ذلك إلا إلى من أرسله، وهو متصف بكلا الوصفين، وأما هو فإنه وإن كان عالماً فهو قاصر العلم فهو غير قادر‏:‏ ‏{‏ربي أعلم‏}‏ أي مني ‏{‏بما تعملون*‏}‏ لأنه محيط العلم فهو شامل القدرة، فهو يعلم استحقاقكم للعذاب، ومقدار ما تستحقون منه ووقت إنزاله، فإن شاء عذبكم، وأما أنا فليس عليّ إلا البلاغ وأنا مأمور به، فلم أخوفكم من نفسي ولا ادعيت قدرة على عذابكم، فطلبكم ذلك مني ظلم منكم مضموم إلى ظلمكم بالتكذيب‏.‏

ولما كان محط كلامهم كله على تكذيبهم له من غير قدح في قدرة الخالق، سبب العذاب عن تكذيبهم فقال‏:‏ ‏{‏فكذبوه‏}‏ أي استمروا على تكذيبه ‏{‏فأخذهم‏}‏ أي أخذ ملاك ‏{‏عذاب يوم الظلة‏}‏ وهي سحابة على نحو ما طلبوا من قطع السماء، أتتهم بعد حر شديد نالهم حتى من الأسراب في داخل الأرض أشد مما نالهم من خارجها ليعلم أن لا فاعل إلا الله، وأنه يتصرف كيف شاء على مقتضى العادة وغير مقتضاها فوجدوا من تلك الظلة نسيماً بارداً، وروحاً طيباً، فاجتمعوا تحتها استرواحاً إليها واستظلالاً بها، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا بنحو مما اقترحوا وأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فنفذت فيهم سهام القدرة‏.‏

ولم يجدوا من دونها وقاية ولا سترة من غير أن تدعو حاجة إلى سقوط شيء من جرم السماء، ولا بما دونها من العماء‏.‏

ولما كان الحال موجباً للسؤال عن يوم الظلة، قال تعالى مهوّلاً لأمره ومعظماً لقدره‏:‏ ‏{‏إنه كان‏}‏ فأكد ب «إن» وعظم ب «كان» ‏{‏عذاب يوم عظيم*‏}‏ وزاده عظماً بنسبته إلى اليوم فصار له من الهول، ببديع هذا القول، ما تجب له القلوب وتعظم الكروب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 199‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏190‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏191‏)‏ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏192‏)‏ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ‏(‏193‏)‏ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏194‏)‏ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ‏(‏195‏)‏ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏196‏)‏ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏197‏)‏ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ‏(‏198‏)‏ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏199‏)‏‏}‏

ولما كان لتوالي الإخبار بإهلاك هذه القرون، وإبادة من ذكر من تلك الأمم، من الرعب ما لا يبلغ وصفه، ولا يمكن لغيره سبحانه شرحه، قال تعالى مشيراً إليه تحذيراً من مثله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم من الإنجاء المطرد لكل رسول ومن أطاعه، والأخذ المطرد لمن عصاه في كل عصر بكل قطر، بحث لا يشذ من الفريقين إنسان قاص ولا دان ‏{‏لآية‏}‏ أي لدلالة واضحة عظيمة على صدق الرسل وأن يكونوا جديرين بتصديق العباد لهم في جميع ما قالوا من البشائر والنذائر بأن الله تعالى يهلك من عصاه، وينجي من والاه، لأنه الفاعل المختار، لا مانع له، ولا سيما أنت وأنت أعظمهم منزلة، وأكرمهم رتبة، ولا سيما وقد أتيت قومك بما لا يكون معه شك لو لم يكن لهم بك معرفة قبل ذلك، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة أصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، وأغزرهم عقلاً، وأوضحهم نبلاً، وأعلاهم همة، وأبعدهم عن كل دنس- وإن قل- ساحة؛ ثم عجب من توقفهم في الإيمان مع ما عرفوا من صدق نبيهم وطهارة أخلاقه، ووفور شفقته عليهم، ولم يخافوا من مثل ما تحقفوه من إهلاك هذه الأمم فقال‏:‏ ‏{‏وما كان أكثرهم‏}‏ أي أكثر قومك كما كان من قبلهم مع رؤية هذه الآيات، وإحلال المثلات حتى لكأنهم تواصوا بذلك ‏{‏مؤمنين*‏}‏ أي عريقين في الإيمان، بل ما يؤمنون إلا وهو مشركون‏.‏

ولما كان هذا كله تأسية للداعي صلى الله عليه وسلم، وتهديداً لمن تمادى على تكذيبه، وترجية لمن رجع عن ذنوبه، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وإن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بكل ما يعلي شأنك، ويوضح برهانك ‏{‏لهو العزيز‏}‏ فلا يعجزه أحد، ولا ينسب في إمهال عاص إلى إهمال ولا عجز ‏{‏الرحيم*‏}‏ فلا يأخذ إلا بعد تجاوز الحد، واليأس عن الرد، مع البيان الشافي، في الإبلاغ الوافي، والتلطف الكافي، وكرر الختام بهذا الكلام في هذه السورة ثماني مرات فلعل من أسراره الإشارة إلى سبق الرحمة للغضب، لأن من السورة- المفتتحة بالكتاب القيم والعبد الكامل بالإضافة إلى الملك الأعظم اللذين هما رحمة الخالق للخلائق، وذكر فيها مع تقديمها في الترهيب أهل الرحمة من أهل الكهف الذين قالوا ‏{‏هب لنا من لدنك رحمة‏}‏ وموسى والخضر عليهما السلام اللذين آتى كلا منهما من لدنه رحمة، وذا القرنين الذي آتاه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً وقال ‏{‏هذا رحمة من ربي‏}‏- إلى سورة الرحمة بإنزال الفرقان على عبده المضاف إليه للإنذار المؤذن بصفة العزة- ثماني سور، فكل منهما ثامنة الأخرى، وافتتحت السورة الوالية للفرقان تفصيلاً لما في أول الكهف بقوله‏:‏ ‏{‏لعلك باخع نفسك‏}‏ وبذكر ما على الأرض من زينة ‏{‏ألم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم‏}‏ كل ذلك تذكيراً بما في تلك من الكتاب الجامع بالرحمة، وتحذيراً مما في القرآن من الإنذار الفارق بالعزة، فلما كان ذلك كررت صفتا العز التي أذنت بها الفرقان، والرحمة التي صرحت بها الكهف ثماني مرات بحسب ذلك العدد، تذكيراً بهذا المعنى البديع، وترغيباً وترهيباً وتذكيراً بأبواب الرحمة الثمانية مع ما لختم القصص بذلك من الروعة في النفس، والهيبة في القلب، والأنس البالغ للروح، وقدمت هنا صفة العزة الناظرة للإنذار بالفرقان على طريق النشر المشوش مع ما اقتضى ذلك من الحال هنا وجعلت القصص سبعاً تحذيراً من أبواب النقمة السبعة- إلى غير ذلك من الأسرار التي لا تسعها الأفكار‏.‏

ولما كانت آثار هذه القصص آيات مرئيات، والإخبار بها آيات مسموعات، وكان في اطراد إهلاك العاصي وإنجاء الطائع في كل منهما، على تباعد الأعصار، وتناهي الأقطار، واختلاف الديار، أعظم دليل على صدق الرسل، وتقرير الرسالات لتوافقهم في الدعوة إلى الله، وتواردهم على التوحيد، والعدل مع العزوف عن الدنيا التي هي شر محض، والإقبال على الآخرة التي هي خير صرف، والتحلي بما أطبق العباد على أنه معالي الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والتخلي عن جميع الدنايا، والتنزه عن كل نقص، عطف على قوله أول السورة ‏{‏وما يأتيهم من ذكر‏}‏- الآية الإخبار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، إشارة إلى ما في الإخبار عن آثار هذه القصص بالآيات المسموعات من عظيم الدلالات على رسالته صلى الله عليه وسلم بما فيها من الإعجاز من جهة التركيب والترتيب وغير ذلك من عجيب الأساليب الذي لم تؤته أمة من الأمم السالفات، ومن جهة أن الآتي بتلك القصص الغريبة، والأنباء البديعة العجيبة، أمي لم يخالط عالماً مع شدة ملاءمة القرآن لخصوص ما في قصة شعيب عليه السلام من العدل في الكيل والوزن الذي هو مدار القرآن، ومن أنه الظلة الجامعة للخير، والفسطاط الدافع لكل ضير، فقال رداً للمقطع على المطلع‏:‏ ‏{‏وإنه‏}‏ أي الذكر الذي أتاهم بهذه الأخبار وهم عنه معرضون وله تاركون ‏{‏لتنزيل رب العالمين*‏}‏ أي الذي رباهم بشمول علمه، وعظيم قدرته، بما يعجز عن أقل شيء منه غيره لكونه أتاهم بالحق منها على لسان من لم يخالط عالماً قط، ومع أنه سبحانه غذاهم بنعمته، ودبرهم بحكمته، فاقتضت حكمته أن يكون هذا الذكر جامعاً لكونه ختاماً، وأن يكون معجزاً لكونه تماماً، ونزله على حسب التدريج شيئاً فشيئاً‏.‏ مكرراً فيه ذكر القصص سابقاً في كل سورة منها ما يناسب المقصود من تلك السورة، معبراً عما يسوقه منها بما يلائم الغرض من ذلك السياق مع مراعاة الواقع، ومطابقة الكائن‏.‏

ولما كان الحال مقتضياً لأن يقال‏:‏ من أتى بهذا المقال، عن ذي الجلال‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏نزل به‏}‏ أي نجوماً على سبيل التدريج من الأفق الأعلى الذي هو محل البركات، وعبر عن جبرائيل عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏الروح‏}‏ دلالة على أنه مادة خير، وأن الأرواح تجيء بما ينزله من ا لهدى، وقال‏:‏ ‏{‏الأمين*‏}‏ إشارة إلى كونه معصوماً من كل دنس، فلا يمكن منه خيانة ‏{‏على قلبك‏}‏ أي يا محمداً الذي هو أشرف القلوب وأعلاها، وأضبطها وأوعاها، فلا زيغ فيه ولا عوج، حتى صار خلقاً له، وفي إسقاط الواسطة إشارة إلى أنه- لشدة إلقائه السمع وإحضاره الحس- يصير في تمكنه منه بحيث يحفظه فلا ينسى، ويفهمه حق فهمه فلا يخفى، فدخوله إلى القلب في غاية السهولة حتى كأنه وصل إليه بغير واسطة السمع عكس ما يأتي عن المجرمين، وهكذا كل من وعى شيئاً غاية الوعي حفظه كل الحفظ، انظر إلى قوله تعالى ‏{‏ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏ ‏{‏لا تحرك به لسانك لتعجل به‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 16‏]‏‏.‏

ولما كان السياق في هذه السورة للتحذير، قال معللاً للجملة التي قبله‏:‏ ‏{‏لتكون من المنذرين*‏}‏ أي المخوفين المحذرين لمن أعرض عن الإيمان، وفعل ما نهى عنه من العصيان‏.‏

ولما كان القصد من السورة التسلية عن عدم إيمانهم بأنه لسفول شأنهم، لا لخلل في بيانه، ولا لنقص في شأنه، قال تعالى موضحاً لتمكنه من قبله‏:‏ ‏{‏بلسان عربي‏}‏‏.‏ ولما كان في العربي ما هو حوشي لفظاً أو تركيباً، مشكل على كثير من العرب، قال‏:‏ ‏{‏مبين*‏}‏ أي بين في نفسه كاشف لما يراد منه غير تارك لبساً عند من تدبره حق تدبره على ما يتعارفه العرب في مخاطباتها، من سائر لغاتها، بحقائقها ومجازاتها على اتساع إراداتها، وتباعد مراميها في محاوراتها، وحسن مقاصدها في كناياتها واستعاراتها، ومن يحيط بذلك حق الإحاطة غير العليم الحكيم الخبير البصير، وإنما كانت عربيته وإبانته موضحة لسبقه قلبه، لأن من تكلم بلغته- فكيف بالبين منها- تسبق المعاني الألفاظ إلى قلبه، فلو كان أعجمياً لكان نازلاً على السمع، لأنه يسمع أجراس حروف لا يفهم معانيها؛ قال الكشاف‏:‏ وقد يكون الرجل عارفاً بعدة لغات، فإذا كلم بلغته التي لقنها أولاً ونشأ عليها وتطبع بها لم يكن قلبه إلا إلى المعاني، ولا يكاد يفطن للألفاظ، وإن كلم بغيرها وإن كان ماهراً فيها كان نظره أولاً في ألفاظها ثم في معانيها- انتهى‏.‏ ففيه تقريع عظيم لمن يعرف لسان العرب ولا يؤمن به‏.‏

ولما كان الاستكثار من الأدلة مما يسكن النفوس، وتطمئن به القلوب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه‏}‏ أي هذا القرآن أصوله وكثير من قصصه وأمهات فروعه ‏{‏لفي زبر‏}‏ أي كتب ‏{‏الأولين*‏}‏ المضبوطة الظاهرة في كونها أتت من السماء إلى أهلها الذين سكنت النفوس إلى أنه أتتهم رسل، وشرعت لهم شرائع نزلت عليهم بها كتب من غير أن يخالط هذا الذي جاء به أحداً منهم أو من غيرهم في علم ما، وكان ذلك دليلاً قاطعاً على أنه ما أتاه به إلا الله تعالى‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ ألم يكن لهم أمارة على صدق ذلك أن يطلبوا تلك الزبر فينظروا فيذوقوا ذلك منها ليضلوا إلى حق اليقين‏؟‏ عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏أولم يكن لهم‏}‏‏.‏

ولما كان هذا الأسلوب الاستدلال، اقتضى تقديم الخبر على الاسم في قراءة الجمهور بالتذكير والنصب، فقال بعد تقديم لما اقتضاه من الحال‏:‏ ‏{‏آية‏}‏ أي علامة على النسبة إلينا؛ ثم اتبع ذلك الاسم محلولاً إلى أن والفعل لأنه أخص وأعرف وأوضح من ذكر المصدر، فقال‏:‏ ‏{‏أن يعلمه‏}‏ أي هذا الذي أتى به نبينا من عندنا؛ وأنث ابن عامر الفعل ورفع ‏{‏آية‏}‏ اسماً وأخبر عنها بأن والفعل ‏{‏علماء بني إسرائيل*‏}‏ فيقروا به ولا ينكروه، ليؤمنوا به ولا يهجروه، فإن قريشاً كانوا كثيراً ما يرجعون إليهم ويعولون في الأخبار الإلهية عليهم، فإن كثيراً منهم أسلم وذكر تصديق التوارة والإنجيل والزبور وغيرها من أسفار الأنبياء عليهم السلام للقرآن في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك ما يؤيد صدقه، ويحقق أمره، وقد عربت الكتب المذكورة بعد ذلك، وأخرج منها علماء الإسلام كثيراً مما أهملوه حجة عليهم، ولا فرق في ذلك بين من أسلم منهم وبين غيرهم، فإنها حين نزول القرآن كان التبديل قد وقع فيها بإخبار الله تعالى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أهل مكة بعثوا إلى اليهود يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ هذا زمانه، وإنا لنجد في التوراة صفته، فكان ذلك ملزماً لهم بإخبار الله تعالى، وكذلك كل ما استخرج من الكتب يكون حجة على أهلها‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ لم يروا شيئاً من ذلك آية ولا آمنوا، عطف عليه أو على قوله تعالى أول سورة ‏{‏فقد كذبوا‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏ولو نزلناه‏}‏ أي على ما هو عليه من الحكمة والإعجاز بما لنا من العظمة ‏{‏على بعض الأعجمين*‏}‏ الذين لا يعرفون شيئاً من لسان العرب من البهائم أو الآدميين، جمع أعجم، وهو من لا يفصح وفي لسانه عجمة، والأعجمي مثله بزيادة تأكيد ياء النسبة ‏{‏فقرأه عليهم‏}‏ أي ذلك الذي نزلناه عليه على ما هو عليه من الفصاحة والإعجاز مع علمهم القطعي أنه لا يعرف شيئاً من اللسان ‏{‏ما كانوا به مؤمنين*‏}‏ أي راسخين ولتمحلوا لكفرهم عذراً في تسميته سحراً أو غير ذلك من تعنتهم ‏{‏وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهو مشركون‏}‏ من فرط عنادهم، وتهيئهم للشر واستعدادهم له، بل لا يسمعونه حق السماع، ولا يعونه حق الوعي، بل سماعاً وفهماً على غير وجهه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏200- 210‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏200‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏201‏)‏ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏202‏)‏ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ‏(‏203‏)‏ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏204‏)‏ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ‏(‏205‏)‏ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏206‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ‏(‏207‏)‏ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ‏(‏208‏)‏ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏209‏)‏ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ‏(‏210‏)‏‏}‏

ولما كان ذلك محل عجب، وكان ربما ظن له أن الأمر على غير حقيقته، قرر مضمونه وحققه بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا السلك العجيب- الذي هو سماع وفهم ظاهري- في صعوبة مدخله وضيق مدرجه‏.‏

ولما لم يكن السياق مقتضياً لما اقتضاه سياق الحجر من التأكيد، اكتفى بمجرد الحدوث فقال‏:‏ ‏{‏سلكناه‏}‏ أي كلامنا والحق الذي أرسلنا به رسلنا بما لنا من العظمة، في قلوبهم- هكذا كان الأصل، ولكنه علق الحكم بالوصف، وعم كل زمن وكل من اتصف به فقال‏:‏ ‏{‏في قلوب المجرمين*‏}‏ أي الذين طبعناهم على الإجرام، وهو القطيعة لما ينبغي وصله، كما ينظم السهم إذا رمي به، أو الرمح إذا طعن به في القلب، لا يتسع له، ولا ينشرح به، بل تراه ضيقاً حرجاً‏.‏

ولما كان هذا المعنى خفياً، بينه بقوله‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون به‏}‏ أي من أجل ما جبلوا عليه من الإجرام، وجعل على قلوبهم من الطبع والختام ‏{‏حتى يروا العذاب الأليم*‏}‏ فحينئذ يؤمنون حيث لا ينفعهم الإيمان ويطلبون الأمان حيث لا أمان‏.‏

ولما كان إتيان الشر فجاءة أشد‏.‏ وكان أخذه لهم عقب رؤيتهم له من غير مهلة يحصل فيها نوع استعداد أصلاً، دل على ذلك مصوراً لحاله بقوله دالاًّ بالفاء على الأشدية والتعقيب‏:‏ ‏{‏فيأتيهم بغتة‏}‏‏.‏

ولما كان البغت الإتيان على غفلة، حقق ذلك نافياً للتجوز بقوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يشعرون*‏}‏ ودل على تطاوله في محالهم، وجوسه لخلالهم، وتردده في حلالهم، بقوله دالاًّ على ما هو أشد عليهم من المفاجأة بالإهلاك‏:‏ ‏{‏فيقولوا‏}‏ أي تأسفاً واستسلاماً وتلهفاً في تلك الحالة لعلمهم بأنه لا طاقة به بوجه‏:‏ ‏{‏هل نحن منظرون*‏}‏ أي مفسوح لنا في آجالنا لنسمع ونطيع‏.‏

ولما حقق أن حالهم عند الأخذ الجؤار بالذل والصفار به، تسبب عنه ما يستحقون باستعجاله من الإنكار في قوله، منبهاً على أن قدره يفوق الوصف بنون العظمة‏:‏ ‏{‏أفبعذابنا‏}‏ أي وقد تبين لهم كيف كان أخذه للأمم الماضية، والقرون الخالية، والأقوام العاتية‏!‏ ‏{‏يستعجلون*‏}‏ أي بقولهم‏:‏ أمطر علينا حجارة من السماء، أسقط السماء علينا كسفاً، ائت بالله والملائكة قبيلاً، كما قال هؤلاء الذين قصصنا أمرهم، وتلونا ذكرهم ‏{‏فأسقط علينا كسفاً من السماء‏}‏ ونحو ذلك‏.‏

ولما تصورت حالة مآبهم، في أخذهم بعذابهم، وكان استعجالهم به يتضمن الاستخفاف والتكذيب والوثوق بأنهم ممتعون، وتعلق آمالهم بأن تمتيعهم بطول زمانه، وكان من يؤذونه يتمنى لو عجل لهم، سبب عن ذلك سبحانه سؤال داعيهم مسلياً ومؤسياً ومعزياً فقال‏:‏ ‏{‏أفرأيت‏}‏ أي هب أن الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم في النعيم فأخبرني ‏{‏إن متعناهم‏}‏ أي في الدنيا برغد العيش وصافي الحياة‏.‏

ولما كانت حياة الكافر في غاية الضيق والنكد وإن كان في أصفى رغد، عبر بما يدل على القحط بصيغة القلة وإن كان السياق يدل على أنها للكثرة فقال‏:‏ ‏{‏سنين ثم جاءهم‏}‏ أي بعد تلك السنين المتطاولة، والدهور المتواصلة ‏{‏ما كانوا يوعدون*‏}‏ أي مما طال إنذارك إياهم به وتحذيرك لهم منه على غاية التقريب لهم والتمكين في إسماعهم، أخبرني ‏{‏ما‏}‏ أي أيّ شيء ‏{‏أغنى عنهم‏}‏ أي فيما أخذهم من العذاب ‏{‏ما كانوا‏}‏ أي كوناً هو في غاية المكنة وطول الزمان ‏{‏يمتعون*‏}‏ تمتيعاً هو في غاية السهولة عندنا، وصوره بصورة الكائن تنديماً عليه، والمعنى أنه ما أغنى عنهم شيئاً لأن عاقبته الهلاك، وزادهم بعداً من الله وعذابه بزيادة الآثام الموجبة لشديد الانتقام‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ لم يغن عنهم شيئاً لأنهم ما أخذوا إلا بعد إنذار المنذرين، لمشافهتك إياهم به، وسماعهم لمثل ذلك عمن مضى قبلهم من الرسل، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما أهلكنا‏}‏ أي بعظمتنا، واعلم بالاستغراق بقوله‏:‏ ‏{‏من قرية‏}‏ أي من القرى السالفة، بعذاب الاستئصال ‏{‏إلا لها منذرون*‏}‏ رسولهم ومن تبعه من أمته ومن سمعوا من الرسل بأخبارهم مع أممهم من قبل، وأعراها من الواو لأن الحال لم يقتض التأكيد كما في الحجر، لأن المنذرين مشاهدون‏.‏ وإذا تأملت آيات الموضعين ظهر لك ذلك؛ ثم علل الإنذار بقوله‏:‏ ‏{‏ذكرى‏}‏ أي تنبيهاً عظيماً على ما فيه من النجاة، وتذكيراً بأشياء يعرفونها بما أدت إليه فطر عقولهم، وقادت إليه بصائر قلوبهم، وجعل المنذرين نفس الذكرى كما قال تعالى ‏{‏قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 10‏]‏ وذلك إشارة إلى إمعانهم في التذكير حتى صاروا إياه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فما أهلكنا قرية منها إلا بالحق، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما كنا‏}‏ أو الواو للحال من نون ‏{‏أهلكنا‏}‏ ‏{‏ظالمين*‏}‏ أي في إهلاك شيء منها لأنهم كفروا نعمتنا، وعبدوا غيرنا، بعد الإعذار إليهم، ومتابعة الحجج، ومواصلة الوعيد‏.‏

ولما أخبر سبحانه أن غاية إنزال هذا القرآن كونه صلى الله عليه وسلم من المنذرين، وأتبع ذلك ما لاءمه حتى ختم بإهلاك من كذب المنذرين، عطف على قوله‏:‏ ‏{‏نزل به الروح‏}‏ قوله إعلاماً بأن العناية شديدة في هذا السياق بالقرآن لتقرير أنه من عند الله ونفى اللبس عنه بقوله‏:‏ ‏{‏وما تنزلت به‏}‏ أي القرآن ‏{‏الشياطين*‏}‏ أي ليكون سحراً أو كهانة أو شعراً أو أضغاث أحلام كما يقولون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏211- 219‏]‏

‏{‏وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏211‏)‏ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ‏(‏212‏)‏ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ‏(‏213‏)‏ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ‏(‏214‏)‏ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏215‏)‏ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏216‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏217‏)‏ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏218‏)‏ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ‏(‏219‏)‏‏}‏

ولما كان لا يلزم من عدم التلبس بالفعل عدم الصلاحية له قال‏:‏ ‏{‏وما ينبغي لهم‏}‏ أي ما يصح وما يتصور منهم النزول بشيء منه لأنه خير كله وبركة، وهم مادة الشر والهلكة، فبينهما تمام التباين، وأنت سكينة ونور، وهم زلزلة وثبور، فلا إقبال لهم عليك، ولا سبيل بوجه إليك‏.‏

ولما كان عدم الانتفاء لا يلزم منهم عدم القدرة قال‏:‏ ‏{‏وما يستطيعون*‏}‏ أي النزول به وإن اشتدت معالجتهم على تقدير أن يكون لهم قابلية لذلك؛ ثم علل هذا بقوله‏:‏ ‏{‏إنهم عن السمع‏}‏ أي الكامل الحق، من الملأ الأعلى ‏{‏لمعزولون*‏}‏ أي بما حفظت به السماء من الشهب وبما باينوا به الملائكة في الحقيقة لأنهم خير صرف، ونور خالص، وهؤلاء شر بحت وظلمة محضة، فلا يسمعون إلا خطفاً، فيصير- بما يسبق إلى أفهامهم، ويتصور من باب الخيال في أوهامهم- خلطاً لا حقيقة لأكثره، فلا وثوق بأغلبه، ولا يبعد أن يكون ذلك عاماً حتى يشمل السماع من المؤمنين لما شاركوا به الملائكة من النور والخير، انظر ما ورد في آية الكرسي من أنها لا تقرأ في بيت فيقربه شيطان، وفي رواية‏:‏ إلا خرج منه الشيطان، وورد نحوه في الآيتين من آخر سورة البقرة، وكذا ما كان من أشكال ذلك، وأعظم منه قوله عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه‏:‏ «إنه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك» وترك تعليل الانبغاء لظهوره‏.‏

ولما كان تقديره أنهم إلى الطواغيت الباطلة يدعون، والقرآن داع إلى الله الحق المبين، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فلا تدع‏}‏ وخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام وهو أكرم الخلق لديه، وأعزهم عليه، ليكون لطفاً لغيره فيما يأتيه من الإنذار، فيكون الوعيد أزجر له، ويكون هو له أقبل ‏{‏مع الله‏}‏ أي الحائز لكل كمال الداعي إليه هذا القرآن الذي نزل به عليك الروح الأمين، لما بينك وبينهما من تمام النسبة بالنورانية والخير ‏{‏إلهاً‏}‏ وتقدم في آخر الفرقان حكمة الإتيان بقوله‏:‏ ‏{‏آخر فتكون‏}‏ أي فيتسبب عن ذلك أن تكون ‏{‏من المعذبين*‏}‏ من القادر على ما يريد بأيسر أمر وأسهله، وهذا الكلام لكل من سمع القرآن في الحث على تدبره معناه، ومقصده ومغزاه، ليعلم أنه في غاية المباينة للشياطين وضلالهم، والملاءمة للمقربين وأحوالهم، لعله خاطب به المعصوم، زيادة في الحث على اتباع الهدى، وتجنب الردى، وليعطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأنذر‏}‏ أي بهذا القرآن ‏{‏عشيرتك‏}‏ أي قبيلتك ‏{‏الأقربين*‏}‏ أي الأدنين في النسب، ولا تحاب أحداً، فإن المقصود الأعظم به النذارة لكف الخلائق عما يثمر الهلاك من اتباع الشياطين الذين اجتالوهم عن دينهم بعد أن كانوا حنفاء كلهم، وإنذار الأقربين يفهم الإنذار لغيرهم من باب الأولى، ويكسر من أنفة الأبعد للمواجهة بما يكره، لأنه سلك به مسلك الأقرب، ولقد قام صلى الله عليه وسلم بهذه الآية حق القيام؛ روى البخاري

«عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ لما نزلت صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي‏:‏ يا بني فهر يا بني عدي لبطون- قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال‏:‏ أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيََّ‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏!‏ ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال‏:‏ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب‏:‏ تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا‏؟‏ فنزلت ‏{‏تبت يدا أبي لهب وتب‏}‏» وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يا معشر قريش‏!‏ اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يابني عبد مناف‏!‏ لا أغني عنكم من الله شيئاً‏!‏ يا عباس بن عبد المطلب‏!‏ لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله‏!‏ لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد‏!‏ سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً» وروى القصة أبو يعلى عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن قريشاً جاءته فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وموسى في البحر وعيسى في إحياء الموت، وأن يسير الجبال، ويفجر الأنهار، ويجعل الصخر ذهباً، فأوحى الله إليه وهم عنده، فلما سُرِّيَ عنه أخبرهم أنه أعطي ما سألوه، ولكنه أن أراهم فكفروا عوجلوا‏.‏ فاختار صلى الله عليه وسلم الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة‏.‏

ولما كانت النذارة إنما هي للمتولين، أمر بضدها لأضدادهم فقال‏:‏ ‏{‏واخفض جناحك‏}‏ أي لن غاية اللين، وذلك لأن الطائر إذا أراد أن يرتفع رفع جناحيه، فإذا أراد أن ينحط كسرهما وخفضهما، فجعل ذلك مثلاً في التواضع ‏{‏لمن اتبعك‏}‏ ولعله احترز بالتعبير بصيغة الافتعال عن مثل أبي طالب ممن لم يؤمن أو آمن ظاهراً وكان منافقاً أو ضعيفاً بالإيمان فاسقاً؛ وحقق المراد بقوله‏:‏ ‏{‏من المؤمنين*‏}‏ أي الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة سواء كانوا من الأقربين أو الأبعدين‏.‏

ولما أفهم ذلك أن هذا الحكم عام في جميع أحوالهم، فصل بقوله‏:‏ ‏{‏فإن عصوك‏}‏ أي هم فغيرهم من باب الأولى ‏{‏فقل‏}‏ أي تاركاً لما كنت تعاملهم به حال الإيمان من اللين‏:‏ ‏{‏إني بريء‏}‏ أي منفصل غاية الانفصال ‏{‏مما تعملون*‏}‏ أي من العصيان الذي أنذر منه القرآن، وخص المؤمنين إعلاء لمقامهم، بالزيادة في إكرامهم، ليؤذن ذلك المزلزل بالعلم بحاله فيحثه ذلك على اللحاق بهم‏.‏

ولما أعلمت هذه الآية بمنابذة من عصى كائناً من كان ولو كان ممن ظهر منه الرسوخ في الإيمان، لما يرى منه من عظيم الإذعان، أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏وتوكل‏}‏ أي في عصمتك ونجاتك والإقبال بالمنذرين إلى الطاعة، وقراءة أهل المدينة والشام بالفاء السببية أدل على ذلك ‏{‏على العزيز‏}‏ أي القادر على الدفع عنكم والانتقام منهم ‏{‏الرحيم*‏}‏ أي المرجو لإكرام الجميع برفع المخالفة والشحناء، والإسعاد بالاستعمال فيما يرضيه؛ ثم أتبع الأمر بالتوكل الوصف بما يقتضي الكفاية في كل ما ينوب من دفع الضر وجلب النفع، وذلك هو العلم المحيط المقتضي لجميع أوصاف الكمال، فقال‏:‏ ‏{‏الذي يراك‏}‏ أي بصراً وعلماً ‏{‏حين تقوم*‏}‏ من نومك من فرشك تاركاً لحبك، لأجل رضا ربك ‏{‏و‏}‏ يرى ‏{‏تقلبك‏}‏ في الصلاة ساجداً وقائماً ‏{‏في الساجدين*‏}‏ أي المصلين من أتباعك المؤمنين، لكم دوي بالقرآن كدوي النحل، وتضرع من خوف الله، ودعاء وزفرات تصاعد وبكاء، أي فهو جدير لإقبالكم عليه، وخضوعكم بين يديه، بأن يحبوكم بكل ما يسركم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏220- 227‏]‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏220‏)‏ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ‏(‏221‏)‏ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏222‏)‏ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ‏(‏223‏)‏ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ‏(‏224‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ‏(‏225‏)‏ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ‏(‏226‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ‏(‏227‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه الأحوال مشتملة على الأقوال، وكان قد قدم الرؤية المتضمنة للعلم، علل ذلك بالتصريح به مقروناً بالسمع فقال‏:‏ ‏{‏إنه هو‏}‏ أي وحده ‏{‏السميع‏}‏ أي لجميع أقوالكم ‏{‏العليم*‏}‏ أي بجميع ما تسرونه وتعلنونه من أعمالكم، وقد تقدم غير مرة أن شمول العلم يستلزم تمام القدرة، فصار كأنه قال‏:‏ إنه السميع العليم البصير القدير، تثبيتاً للمتوكل عليه‏.‏

ولما بين سبحانه أن القرآن مناف لأقوال الشياطين، وبين أن حال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أتباعه منافية لأحوالهم وأحوال من يأتونه من الكهان بما ذكره سبحانه من فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أشياعه رضي الله عنهم من الإقبال على الله، والإعراض عما سواه، فعلم أن بينهم وبينهم بوناً بعيداً، وفرقاً كبيراً شديداً، وأن حال النبي صلى الله عليه وسلم موافق لحال الروح الأمين، النازل عليه بالذكر الحكيم، تشوفت النفس إلى معرفة أحوال إخوان الشياطين، مقال محركاً لمن يريد ذلك، متمماً لدفع اللبس عن كون القرآن من عند الله، وفرق بين الآيات المتكلفة بذلك تطرية لذكرها وتنبيهاً على تأكيد أمرها‏:‏ ‏{‏هل أنبئكم‏}‏ أي أخبركم خبراً جليلاً نافعاً في الدين، عظيم الجدوى في الفرقان بين أولياء الرحمن وإخوان الشيطان ‏{‏على من تنزل‏}‏ وتردد ‏{‏الشياطين*‏}‏ حين تسترق السمع على ضرب من الخفاء بما آذن به حذف التاء، ودخل حرف الجر على الاسم المتضمن للاستفهام، لأن معنى التضمن أنه كان أصله‏:‏ أمن، فحذفت منه الهمزة حذفاً مستمراً كما فعل في «هل» لأن أصله «أهل» كما قال‏:‏

سائل فوارس يربوع بشدتنا *** أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

فالاستفهام مقدر قبل الجار- أفاده الزمخشري‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ نعم أنبئنا‏!‏ قال‏:‏ ‏{‏تنزل‏}‏ على سبيل التدريج والتردد ‏{‏على كل أفاك‏}‏ أي صراف- على جهة الكثرة والمبالغة- للأمور عن وجوهها بالكذب والبهتان، والخداع والعدوان، من جملة الكهان وأخذان الجان ‏{‏أثيم*‏}‏ فعال الآثام بغاية جهده، وهؤلاء الأثمة ‏{‏يلقون السمع‏}‏ إلى الشياطين، ويصغون إليهم غاية الإصغاء، لما بينهما من التعاشق بجامع إلقاء الكذب من غير اكتراث ولا تحاش، أو يلقي الشياطين ما يسمعونه مما يسترقون استماعه من الملائكة إلى أوليائهم، فهم بما سمعوا منهم يحدثون، وبما زينت لهم نفوسهم يخلطون ‏{‏وأكثرهم‏}‏ أي الفريقين ‏{‏كاذبون*‏}‏ فيما ينقلونه عما يسمعونه من الإخبار بما حصل فيما وصل إليهم من التخليط، وما زادوه من الافتراء والتخبيط انهماكاً في شهوة علم المغيبات، الموقع في الإفك والضلالات؛ قال الرازي في اللوامع ما معناه أنه حيثما كان استقامة في حال الخيال- أي القوة المتخيلة- كانت منزلة الملائكة، وحيثما كان اعوجاج في حال الخيال كان منزل الشياطين، فمن ناسب الروحانيين من الملائكة كان مهبطهم عليه، وظهورهم له، وتأثيرهم فيه، وتمثلهم به، حتى إذا ظهروا عليه تكلم بكلامهم وتكلموا بلسانه، ورأى بأبصارهم وأبصروا بعينيه، فهم ملائكة يمشون على الأرض مطمئنين

‏{‏إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏ ومن ناسب الشياطين من الأبالسة كان مهبطهم عليه، وظهورهم له، وتأثيرهم فيه، وتمثلهم به، حتى إذا ظهروا عليه تكلم بكلامهم وتكلموا بلسانه، ورأى بأبصارهم وابصروا بعينيه، هم شياطين الإنس يمشون في الأرض مفسدين- انتهى‏.‏

ولما بطل- بإبعاده عن دركات الشياطين، وإصعاده إلى درجات الروحانيين، من الملائكة المقربين، الآتين عن رب العالمين- كونه سحراً، وكونه أضغاثاً ومفترى، نفى سبحانه كونه شعراً بقوله‏:‏ ‏{‏والشعراء يتبعهم‏}‏ أي بغاية الجهد، في قراءة غير نافع بالتشديد، لاستحسان مقالهم وفعالهم، فيتعلمون منهم وينقلون عنهم ‏{‏الغاوون*‏}‏ أي الضالون المائلون عن السنن الأقوم إلى الزنى والفحش وكل فساد يجر إلى الهلاك، وهم كما ترى بعيدون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم الساجدين الباكين الزاهدين‏.‏

ولما قرر حال أتباعهم، فعلم منه أنهم هم أغوى منهم، لتهتكهم في شهوة اللقلقة باللسان، حتى حسن لهم الزور والبهتان، دل على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر أنهم‏}‏ أي الشعراء‏.‏ ومثل حالهم بقوله‏:‏ ‏{‏في كل واد‏}‏ أي من أودية القول من المدح والهجو والنسيب والرثاء الحماسة والمجون وغير ذلك ‏{‏يهيمون*‏}‏ أي يسيرون سير الهائم حائرين وعن طريق الحق جائرين، كيفما جرهم القول انجروا من القدح في الأنساب، والتشبيب بالحرم، والهجو‏.‏ ومدح من لا يستحق المدح ونحو ذلك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وأنهم يقولون ما لا يفعلون*‏}‏ أي لأنهم لم يقصدوه‏.‏ وإنما ألجأهم إليه الفن الذي سلكوه فأكثر أقوالهم لا حقائق لها، انظر إلى مقامات الحريري وما اصطنع فيها من الحكايات، وابتدع بها من الأمور المعجبات‏.‏ التي لا حقائق لها، وقد جعلها أهل الاتحاد أصلاً لبدعتهم الكافرة، وقاعدة لصفقتهم الخاسرة، فما أظهر حالهم، وأوضح ضلالهم‏!‏ وهذا بخلاف القرآن فإنه معان جليلة محققة، في ألفاظ متينة جميلة منسقة، وأساليب معجزة مفحمة، ونظوم معجبة محكمة، لا كلفة في شيء منها، فلا رغبة لذي طبع سليم عنها، فأنتج ذلك أنه لا يتبعهم على أمرهم إلا غاو مثلهم، ولا يزهد في هذا القرآن إلا من طبعه جاف، وقلبه مظلم مدلهم‏.‏

ولما كان من الشعر- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- حكمة، وكان- كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها- بمنزلة الكلام منه حسن ومنه قبيح، وكان من الشعراء من يمدح الإسلام والمسلمين، ويهجو الشرك والمشركين، ويزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، ويحث على مكارم الأخلاق، وينفر عن مساوئها، وكان الفيصل بين قبيلي حسنة وقبيحة كثرة ذكر الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين آمنوا‏}‏ أي بالله ورسوله ‏{‏وعملوا‏}‏ أي تصديقاً لإيمانهم ‏{‏الصالحات‏}‏ أي التي شرعها الله ورسوله لهم ‏{‏وذكروا الله‏}‏ مستحضرين ما له من الكمال ‏{‏كثيراً‏}‏ لم يشغلهم الشعر عن الذكر، بل بنوا شعرهم على أمر الدين والانتصار للشرع، فصار لذلك كله ذكر الله، ويكفي مثالاً لذلك قصيدة عزيت لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وجوابها لابن الزبعرى، وكان إذ ذاك على شركه، وذلك في أول سرية كانت في الإسلام‏.‏

وروى البغوي بسنده من طريق عبد الرزاق من حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده‏!‏ لكأنما ترمونهم به نضح النبل» وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما ينشد الشعر ويستنشده في المسجد، وروى الإمام أحمد حديث كعب هذا، وروى النسائي برجال احتج بهم مسلم عن أنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» قال البغوي‏:‏ وروي أنه- أي ابن عباس رضي الله عنهما دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي فاستنشهده القصيدة التي قالها‏:‏

أمن آل نعمى أنت غاد فمبكر *** غداة غد أم رائح فمهجر

وهي قريب من تسعين بيتاً، فلما فرغها أعادها ابن عباس وكان حفظها بمرة واحدة، ويكفي الشاعر في التفصي عن ذم هذه الآية له أن لا يغلب عليه الشعر فيشغله عن الذكر حتى يكون من الغاوين، وليس من شرطه أن لا يكون في شعره هزل أصلاً، فقد كان حسان رضي الله تعالى عنه ينشد النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله في قصيدة طويلة مدحه صلى الله عليه وسلم فيها‏:‏

كأن سيبئة من بيت رأس *** يكون مزاجها عسل وماء

إذا ما الأشربات ذكرن يوماً *** فهن لطيب الراح الفداء

نوليها الملامة إن ألمنا *** إذا ما كان مغث أو لحاء

ونشربها فتتركنا ملوكاً *** وأسداً ما ينهنهنا اللقاء

وقد كان تحريم الخمر سنة ثلاث من الهجرة أو سنة أربع، وهذه القصيدة قالها حسان رضي الله تعالى عنه في الفتح سنة ثمان أو في عمرة القضاء سنة سبع، فهي مما يقول الشاعر ما لا يفعل‏.‏

ولما عرف سبحانه بحال المستثنين في الذكر الذي هو أساس كل أمر، أتبعه ما حملهم على الشعر من الظلم الذي رجاهم النصر فقال‏:‏ ‏{‏وانتصروا‏}‏ أي كلفوا أنفسهم أسباب النصر بشعرهم فيمن آذاهم ‏{‏من بعد ما ظلموا‏}‏ أي وقع ظلم الظالم لهم بهجو ونحوه‏.‏

ولما أباح سبحانه الانتصار من الظالم، وكان البادئ- إذا اقتصر المجيب على جوابه- أظلم، كان- إذا تجاوز- جديراً بأن يعتدي فيندم، حذر الله الاثنين مؤكداً للوعيد بالسين في قوله الذي كان السلف الصالح يتواعظون به لأنك لا تجد أهيب منه، ولا أهول ولا أوجع لقلوب المتأملين، ولا أصدع لأكباد المتدبرين‏:‏ ‏{‏وسيعلم‏}‏ وبالتعميم في قوله‏:‏ ‏{‏الذين ظلموا‏}‏ أي كلهم من كانوا، وبالتهويل بالإبهام في قوله‏:‏ ‏{‏أي منقلب‏}‏ أي في الدنيا والاخرة ‏{‏ينقلبون*‏}‏ وقد انعطف آخرها- كما ترى بوصف الكتاب المبين بما وصف به الجلالة والعظم بأنه من عند الله متنزلاً به خير مليكته، على أشرف خليقته، مزيلاً لكل لبس، منفياً عنه كل باطل، وبالختام بالوعيد على الظلم- على أولها في تعظيم الكتاب المبين، وتسلية النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم ووعيد الكافرين الذين هم أظلم الظالمين، واتصل بعدها في وصف القرآن المبين، وبشرى المؤمنين ووعيد الكافرين، فسبحان من أنزله على النبي الأمي الأمين، هدى للعالمين، وآية بينة بإعجازه للخلائق أجمعين، باقية إلى يوم الدين‏.‏